بقالة ودكاكين منظمات المجتمع المدني؟
كفاح محمود كريم
لقد دأبت معظم انظمة القائد والحزب والرأي الاوحد في الدول ذات الانظمة الشمولية، على صناعة احزاب ومنظمات وجمعيات مهلهلة لاستخدامها كأدوات للزينة السياسية، ولم تك تلك التكوينات الا مجرد دوائر خاصة ومجموعات من الموظفين الذين يتلقون رواتبهم إزاء تنفيذهم لتلك الانشطة الخاصة خدمة لبرامج القائد او الحزب الذي ( يقود ) البلاد والعباد الى ما وصلنا اليه بعد اربعين عاما من الامجاد المعبقة بالحروب والاقتتال والاحتلال، ولعل صفحاتنا هنا لا تكفي العشرات او ربما المئات من اسماء تلك المنظمات والاتحادات التي لا اول لها ولا آخر والتي تبخرت هي الاخرى كما تبخر ذلك النظام وحزبه واركان قياداته في اقل من شهر، وقد ظننا إن تغييرا مهما سيحصل بعد هذا ( التبخر ) اثر سقوط النظام الدكتاتوري في العراق حيث تأسست تحت خيمة عاصفة الحرية العشرات من الاحزاب والمنظمات التي يفترض ان تكون للمجتمع الذي ينتقل من العسكرة الى المدنية، ومن الحزب الواحد الى التعددية، ومن الاتجاه الاوحد الى مختلف الاتجاهات بما يخدم المصالح العليا للبلاد.
ومن ضمن ما تأسس تحت خيمة عاصفة الحرية نافورات للصحافة والفضائيات ومصانع لانتاج الاحزاب ومحلات لتداول المنظمات او كما وصفتها في عنوان المقال بقالة ودكاكين المنظمات التي تتاجر باجازاتها و ( تندراتها ) الممنوحة من قبل الدولة ومؤسساتها التنفيذية على ضوء ما جاء في الدستور حول تشجيع واشاعة منظمات المجتمع المدني غير الحكومية، والتي تكاثرت وتوالدت باسماء رومانسية شهية ملفتة للانتباه والضمير والجيوب!، تارة باسم الطفولة واخرى باسم النساء وثالثة للطبيعة والبيئة ورابعة باسماء الامراض المستعصية واصحاب الحاجات الخاصة وطوال القامة وقصارها واصدقاء الحيوانات وجمعيات القرود والحمير والدفاع عنها وربما الاتحاد العام لاصحاب الكروش، وحدث ولا حرج من منظمات تتراقص في صالات الفنادق ذات النجوم الخمسة مع مواسم الربيع واعتدال الاجواء لأقامة مؤتمراتها او ورش تدريباتها واعمالها التي لا تتجاوز مباني مقراتها التي تستخدم للسكن والذي منه في اغلبها!؟
وباستثناء الحركات والاحزاب الوطنية الديمقراطية المعروفة بسلوكها وانتمائها الخالص فقد خرجت علينا العشرات من الاحزاب البيتية والعشائرية بعد سقوط النظام سواء على خلفية ( وصايا القائد ) بالاندحاس في الاحزاب الوطنية العريقة او بتأسيس احزاب جديدة ( بالباكيت ) على شكل وكالات للدول المجاورة، فقد فار تنور المنظمات والجمعيات غير الحكومية التي يفترض انها تمثل المجتمع المدني وتكون مستقلة في ادائها المهني لمراقبة البرلمان والحكومة ومساعدة المجتمع على النهوض كسلطة خامسة، واذا ما استثنينا المنظمات التي تقوم بواجباتها الاجتماعية والتربوية والسياسية بمهنية عالية واخلاص مشهود، فان الأخريات الكثر من تلك الجمعيات قد غمرت المدن بمقراتها ومؤتمراتها التي تشارك الاخوة الاوربيين وغيرهم في السراء والضراء وبخاصة في تلقي المعونات والسفرات الترفيهية تحت عناوين التدريب والتأهيل كما يحصل في عواصم كثيرة من حولنا التي تحولت بقدرة قادر الى ورشات وكليات ومعاهد لتدريب وتأهيل تلك المنظمات.
لقد بلغ عدد المنظمات والجمعيات حسب ما جاء في تقرير وزارتي الداخلية والعمل والشؤون الاجتماعية العراقية ( 11400 ) منظمة مجتمع مدني أي بمعدل ( 760 ) منظمة لكل محافظة عراقية ويفوق هذا العدد من المنظمات عدد مباني المدارس في كثير من مدن البلاد التي تعاني نقصا خطيرا في عددها وعدد الصفوف، ومع ان هناك في الواقع أكثر من 15000 مدرسة ابتدائية في العراق*، إلا أن عدد المباني المدرسية المتوفرة فعلياً هو 11368 مدرسة فقط لاستقبال الملايين من الطلبة الملتحقين، وحوالي 2700 مدرسة من هذه المدارس الموجودة فعلاً بحاجة إلى عملية إصلاح وإعادة تأهيل شامل إضافة الى المئات من المدارس الطينية والصرائف، وقد صرَّح روجر رايت ممثل منظمة الأمم المتحدة للطفولة في العراق لجريدة الشرق الاوسط قائلاً:
نملك اليوم دليلا واضحا على مدى تدهور هذا النظام في الوقت الحاضر حيث يتلقى ملايين الأطفال في العراق تعليمهم في مدارس تفتقر إلى الخدمات الأساسية مثل شبكات مياه الشرب أو الصرف الصحي، وتعاني من جدران متداعية ونوافذ محطمة ونضوح في السقوف. إن نظام التعليم برمته يعاني من الإرباك والأعباء، وعزا رايت هذا التدهور الى الإهمال وضعف التمويل أثناء حقبة العقوبات التي دامت أكثر من عقد كامل والأثر الذي خلّفته العديد من الحروب التي اشتعلت في داخل البلاد وخارجها طيلة ما يقرب من ثلاثين عاما.
ان مقارنة بسيطة بين هذه الارقام وغيرها تعطينا مشهدا مثيرا ومؤشرا خطيرا على الخلل الكبير والبون الشاسع بين واقع الحال وبين ما يجري منذ سقوط النظام الدكتاتوري، بين نضالات وتضحيات القوى الوطنية من اجل عراق ديمقراطي فيدرالي تعددي حر طيلة اكثر من نصف قرن وبين ما تحقق خلال هذه السنوات التي طغت عليها مزايدات الانتهازيين والمنتفعين والفاسدين الذين نجحوا في اختراق كثير من مفاصل الدولة الحديثة ومؤسساتها ونخروها الى الدرجة التي صنفت فيها كدولة فاشلة مغمورة بالفساد والافساد!؟
* حسب ما جاء في تصريح السيد مدير إعلام وزارة التربية العراقية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق