الخميس، 1 أبريل 2010

من اجل برلمان خال من المشبوهين؟

كشفت محاولة إقصاء مجموعة من المشبوهين بانتمائهم أو ارتباطهم بحزب البعث، الذي حكم العراق طيلة ما يقرب من أربعين عاما وتورط في عمليات إبادة جماعية للسكان في شمال البلاد وجنوبها، وتسبب في تدمير شامل للبنية التحتية لواحدة من أغنى وأثرى بلدان العالم قاطبة، كشفت تورط الكثير من المسؤولين العراقيين من الخط الأول في التغطية على هؤلاء المشبوهين وإيصالهم الى دفة الحكم في السلطات الثلاث، ومن ضمنهم السيد صالح المطلك الذي لم ينف انتمائه أو ارتباطه أو تضامنه مع البعث ومجمل سياسات النظام السابق، والذي يشغل موقعه في مجلس النواب الذي يفترض على خلفية قانون الاجتثاث وتعديلاته ومواد الدستور الدائم أن لا يكون تحت قبة البرلمان أي شخص تفوح منه رائحة البعث، فكيف كان المطلك رئيسا لكتلة مهمة في البرلمان وكيف كان ظافر العاني ( الشهير بجوابه لمراسل العربية قبل سقوط النظام عن عدد الصواريخ العراقية المتبقية حيث قال: لدينا سبعة وعشرين مليون صاروخ، ويقصد كافة المواطنين العراقيين والمعنى واضح جدا ) والآخر الذي يتفاخر بانتمائه للبعث أمام مجلس النواب وعشرات آخرين من أمثالهم ومن الحاقدين على العراق الجديد واهم ثوابته وأساسياته في الديمقراطية والفيدرالية طيلة السنوات الخمس الماضية؟

والمثير في عملية الإقصاء أنها تزداد وتكبر مثل كرة الثلج حيث من المتوقع أن يصل العدد الى مئات من المسؤولين والموظفين الكبار والعسكريين والأمنيين في وزارتي الداخلية والدفاع، في واحدة من أهم عمليات التطهير والاعتقال التي أطلق عليها الشارع العراقي بالانقلاب على خلفية ما جرى قبل عدة أيام من منع للتجوال وانتشار واسع للقوات المسلحة بشقيها العسكري والأمني في مناطق معروفة بولائها لحزب البعث ومجموعة إياد علاوي والمطلك، والغريب إن مفهوم الانقلاب كان يستخدم دوما حينما تنقلب ثلة من المغامرين العسكريين في جنح الظلام لتستحوذ على السلطة والمال كما فعلها البعثيون مرتين في 63 و 68، بينما هذه المرة تم توظيف المفهوم الانقلابي بشكل مغاير تماما حيث تنقلب السلطة على بعض من أجزائها وموظفيها!؟

وفي كلتا الحالتين أو الصراعين هناك خلل واضح في طبيعة الصراع الاجتماعي والسياسي في العراق بين مجاميع من الحركات والأحزاب والكتل السياسية في ما بينها ومع تشكيلات ترتبط بالماضي ومحاولة إعادته أو تصنيعه من جديد باستخدام آليات ووسائل واعتمادات، لشرعنة نشاط وفعل كل طرف من الأطراف في قوانين الاجتثاث والدستور تارة وشرعية المقاومة والاحتلال لإباحة العنف والإرهاب تارة أخرى، وبين هذا وذاك يتم صهر وإذابة الأهالي في بودقة العنف والعنف المضاد وما يلحقه من فاقة وبطالة وانحسار في الخدمات الأساسية وتقهقر في المستوى المعاشي والحضاري.

ويبدو إن عمليات الاجتثاث والإقصاء لم تشمل كل البعثيين بل حصدت مجموعة بعينها يصفها البعض بالجناح العلماني في حزب البعث والتي كانت ابعد مسافة عن صدام حسين مقارنة مع المجاميع الأخرى التي توصف هي الأخرى بالتشدد والشوفينية القومية والتطرف المذهبي وتتوافق مع أجندات داخلية للحكومة أو خارجية قريبة، وقد استبعدت من عمليات الاجتثاث والإقصاء، بل نالت كثير من الدعم والتأييد في انتخابات مجالس المحافظات في العام الماضي، كما حصل في الموصل وكركوك وديالى.

إن المراقب لعمليات الاجتثاث والإبعاد يخرج بحصيلة غير ايجابية لما يحصل فالعملية في مجملها تخضع لمزاجات ومحسوبيات الكتل والأحزاب الرئيسية التي تقصي من تريد وتبقي من تستفيد منه ومرور سريع على المشهد الرقمي عشية التاسع من نيسان على حجم الهيكل التنظيمي لحزب السلطة في العراق نرى جدولا يثير الرعب لأول وهلة ولكنه يبدو أكثر سهولة بعد التحقق من طبيعة معظم المنتمين الى صفوف ذلك الحزب، فقد ضم في صفوفه ما يقرب من ( 1200000 ) مليون ومائتي ألف عضو أي رفيق حزبي، يقابلهم ما يقترب من ( 32000 ) اثنين وثلاثين ألف عضو قيادة فرقة، يقودهم ( 6000 ) ستة آلاف عضو شعبة تقريبا، يخضعون لقيادة ما يقارب من ( 250 ) مائتين وخمسين عضو قيادة فرع في كافة محافظات العراق، ومع أعضاء القيادتين القطرية والقومية ومكاتبهما الرئيسية ( الإعلام والمهني والمنظمات والعسكري ) يصبح حجم هيكلهم اقرب الى ( 1240000 ) يتبعهم ما لا يقل عن ضعفهم من المؤيدين والأنصار وبحجمهم من المرتزقة والانتهازيين فيكون الرقم فعلا مثير للخوف والتوجس وأنت تفكر في اجتثاثه أو إلغائه بالكامل؟

إلا أن الحقيقة بعيدة كل البعد عن تلك الأرقام المثبتة على جداول وسجلات المسؤولين سابقا وحاليا عن الحجم التنظيمي لحزب البعث وحتى في تعريف البعثي نفسه، فالعراقيون يدركون كيف كان النظام يزج الناس في حزبه ويضطر أفواجا آخرين بالانتماء الى تنظيماته طلبا للماء والهواء والغذاء والتعيين، وليس كل من انتمى الى ذلك الحزب أصبح مجرما أو خارجا عن القانون لمجرد انه كان بعثيا حتى من أولئك الذين تقدموا في سلم المسؤوليات بحكم تراكم الزمن أو الموقع الإداري، وربما قادت هذه المعطيات والاستنتاجات الكثير من زعماء الأحزاب والحركات السياسية الفاعلة بعد السقوط الى السماح لبعض من قيادات البعث والمتعاونين معه الى الاشتراك في العملية السياسية وخصوصا إن الأمريكان يفضلون بعثا علمانيا مدجنا على الكثير من المتطرفين الآخرين (!).

وهكذا تأتي عمليات الاجتثاث بعد ما يقرب من سبع سنوات حركة سياسية متأخرة جدا لا يمكن تعريفها في أحسن الأحوال إلا كونها تصفية لحسابات انتخابية ربما لا علاقة لها بموضوع البعث الذي يفترض إن معظم قياداته انتهت إما الى السجن أو الإعدام أو الهروب والتورط في تعاملات مأجورة مع دول الجوار، وتشتت الآخرون الى أحزاب وفرق متناحرة تقتاد على بقايا أموال هُربت وسرقت من المال العام قبل سقوط بغداد، وما تبقى منهم أولئك الذين تم إيصالهم الى مجلس النواب أو الحكومة بواسطة القطار الأمريكي أو بعض عربات الأحزاب السياسية الرئيسية، والأكثرية لا علاقة لهم بأي شيء يذكر لأنهم أساسا كانوا متورطين في الانتماء لحزب السلطة كما ذكرنا إما لتعيين أو دراسة عليا أو قبول في جامعة أو ما الى ذلك.
ومن هنا تبرز أسئلة أكثر جدية أو ربما أكثر مرارة حول طبيعة المرشحين الى مجلس النواب وهل إن الشبهة والإقصاء يبقى محصورا فقط بالانتماء الى الحقبة السوداء وحزبها ومؤسساتها بصرف النظر عن الأمور الأخرى؟

وهل سيأخذون بنظر الاعتبار النزاهة المالية والمصداقية في التعامل والطهارة الاجتماعية ومدى صلاحية المرشح وطنيا وأخلاقيا؟
أم إن هذه الأمور مجرد ذنوب بسيطة أو شطحات لا تأثير لها على مستقبل البلاد وسمعة مؤسساتها البرلمانية والتنفيذية؟

وأخيرا إذا كانت كثير من مفاصل الدولة تعج بالمشبوهين سياسيا وماليا وتأهيليا واجتماعيا وأمنيا، فانه من الكارثة والمأساة والإحباط أن يكون مرجعنا في الحكم والتشريع مرتعا لمجموعات من أولئك المشبوهين والمرتشين بعد أكثر من ست سنوات من التجربة والممارسة.

فلنعمل جميعا من اجل برلمان خالٍ من المشبوهين؟

الدبابة الامريكية وقطار 63 ؟

يبدو أن التاريخ يعيد نفسه احيانا رغم عدم قناعة الكثير بهذه المقولة، ورغم ان الاعلام العربي عموما يصر دوما على امكانية استنساخ صفحات من التاريخ واستحضار معاركه وفوارسه في زمن الهزائم والانكسارات، واشاعة ذات الثقافة الاحادية والتلقينية التي يمارسها منذ عشرات السنين، وهي تمثل دوما عقلية وثقافة اولئك المتسلطين في النظام السياسي والاعلامي العربي عموما.

وليس ببعيد عن الاذهان ما حصل في العراق منذ ما يقرب من نصف قرن من تشويه للحقائق وايهامات للرأي العام من خلال شعارات براقة ومثيرة، تداعب هواجس العامة من الاهالي الذين تعشش الامية الابجدية والحضارية في ادمغة اكثر من سبعين بالمائة منهم في ستينات القرن الماضي وحتى سنوات متأخرة منه، حيث اكثر من ثلث السكان البالغين ما زالوا اميين، وقد عملت معظم وسائل الاعلام التي كانت تسيطر عليها الانظمة السياسية على تسطيح عقول الناس واستغفالهم وارهابهم من خلال اشاعة العدو المفترض الذي ينوي تدمير البلاد والعباد، وكأنهم جميعا مسؤولين سياسيين واعلاميين دون استثناء قد ذاكروا وتتلمذوا على تفاصيل رواية ( 1984 )* لجورج اورويل وجمهوريته العتيدة ورئيسه القائد (Big brother ) الذي تنتشر جداريات صوره في كل مكان من الجمهورية التي تقاوم الاستعمار والامبريالية العالمية؟

والغريب حد الذهول انهم امتداد لذلك العدو المفترض، بل انهم في كثير من تفاصيل وجودهم وحقيقتهم منفذين جيدين لبرنامج الطرف الاخر وراء الكواليس، حيث ينفذون بدقة تعاليم عرابهم وفلسفته كما كان يفعل خنازير ( مزرعة الحيوان أو حقل الحيوان )* في تعاملهم السري مع البشر خارج مملكتهم ضد بقية افراد المملكة او الحقل على حد وصف اورويل في تلك الرواية الشهيرة، وليس ببعيد عن اذهاننا كل تلك التجارب المريرة والمأسي الكارثية التي نفذتها تلك الانظمة الاستبدادية في بلاد كان يمكن أن تكون بحق سويسرا الشرق لو كانت بأيدي ابنائها العقلاء والمخلصين.

لقد اثبتت الايام والاحداث طيلة ما يقرب من نصف قرن تحالف تلك الانظمة التي توالت على حكم البلاد مع الشياطين اينما كانوا بروح ميكافيلية بشعة، ولعل العودة قليلا الى ما حدث بعد تموز 1958م يؤكد تلك الشراكة الاستراتيجية بين تلك القوى وبين العدو المفترض الذي يتحدث عنه جورج اورويل في جمهورية الاخ الاكبر أو ( الرئيس الضرورة ) التي لاتعطي الافراد او الاشخاص اهمية ازاء المواقف النهائية بين الطرفين، وهنا يأتي قطار 63 الامريكي ليحمل في عرباته الحلفاء الذين صنعوا رواية العدو المفترض واشاعوها في الاعلام ووسائل تثقيفهم منذ ذلك الحين وحتى دخول ممثلهم الى تلكيف ممتطيا الدبابة الامريكية بدلا من القطار الذي أقل اسلافهم في مطلع الستينات من القرن الماضي؟
حينما بانت تلك اللقطات التي اظهرت محافظ الموصل تتقدمه دبابة امريكية ومجاميع من القوات المحتلة ( المارينز الامريكي ) تحيط موكبه من كل الجوانب وهو يقتحم صفوف المئات من اهالي مدينة تلكيف المدنيين ومعظمهم من الطلبة والفلاحين والعمال والمعلمين والكسبة، الذين رفضوا زيارته واشبعوه ضربا وحلفائه بالحجارة والوحل والفاسد من الخضراوات والبيض، تذكرت باشمئزاز تلك الازدواجية المثيرة للتقزز وهم يعلنون لناخبيهم ايام انتخابات 2005م وما تلاها من انتخابات لمجالس المحافظات معاداتهم للاحتلال والمتعاونين معه ووعودهم بتحرير الموصل من المحتلين الامريكان والاكراد (!) حتى اصبحت ( سولة – عادة ) معاداة الاكراد تذكرنا بمعاداة السامية التي ارعبت الدولة العبرية فيها كل العالم لتحقيق مآربها دوليا واعلاميا، واستخدمتها تلك القوى في الموصل للوصول الى دفة الحكم كما وصل الاسلاف في قطار 63 ذات يوم غابر؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• رواية 1984 : من تأليف جورج أورويل قدمها في عام 1949 والتي كان يتنبأ من خلالها بمصير العالم الذي ستحكمه قوى كبيرة تتقاسم مساحته وسكانه ولا توفر أحلامهم وطموحاتهم بل تحولهم إلى مجرد أرقام في جمهوريات الأخ الأكبر الذي يراقب كل شيء ويعرف كل شيء، حيث يمثل حكمه الحكم الشمولي.
• رواية مزرعة الحيوانات أو حقل الحيوان: من تأليف جورج أورويل التي كتبها في عام 1945 وفيها تنبأ بانهيار الاتحاد السوفيتي.
النظام العشائري والأمية والديمقراطية؟

يتذكر العراقيون مطلع السبعينات من القرن الماضي كيف اتخذ الرئيس العراقي الأسبق احمد حسن البكر قرارا بمنع الألقاب واستخدام اسم العشيرة أو المنطقة أو حتى الاسم الرابع للشخص، في محاولة متواضعة لإيقاف المظاهر العشائرية ظنا بأنه في هذه الخطوة إنه سينهي نظاما تكلس في مفاصل وهياكل المجتمع العراقي منذ مئات السنين، ويحتاج إلى عملية تغيير اجتماعية وتربوية واقتصادية وثقافية ليست بالقصيرة، تحرر الفرد والمجتمع من القيود العشائرية والآليات التي تربط ذلك الفرد بنظام العشيرة وشيخها اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، من خلال وضع أسس رفيعة للمواطنة التي ترتقي في مفاهيمها على العشيرة والمنطقة، وفي بلادنا على الدين والمذهب والعرق والقومية، إضافة إلى إشاعة التعليم وتطوير البنية التحتية للريف وإيصال الكهرباء والمواصلات والمدارس ومراكز الصحة والتصنيع والوعي بما يحرر الفرد من أثقال النظام العشائري وينقله تدريجيا إلى النظام المدني.

لكننا سرعان ما أدركنا إن قرار الرئيس البكر ( الذي رفع الألف واللام من اسمه الثالث البكر ليجعله بكر ) كان صورة من صور الصراع العائلي بين أطراف الحكم آنذاك، فبينما كان نائبه يُعرف وقتها بصدام التكريتي ووزير دفاعه حردان التكريتي وشقيق نائبه برزان التكريتي وتنهج مجموعة صدام نفس ذلك النهج في التعريف، كان صدام حسين يلملم كل أبناء قريته وعشيرته والمقربين منه ( في المرحلة الأولى ) من المفوضين ونواب الضباط والعرفاء وصغار الموظفين في الداخلية والدفاع لكي يدخلهم دورات سريعة ويحولهم الى ضباط في خطوط الحماية وحراسات القصر الجمهوري وديوان الرئاسة، حيث كانت الأمور تسير بهذا الاتجاه مع ( السيد النائب ) بينما كان ( بكر ) يحاول الغاء اللقب ربما ليجرد صدام مما كان يبغيه من استخدام اسم قريته وتأسيس دويلة ضمن الدولة التي يروم تكوينها الرئيس البكر آنذاك.

ورغم محاولات البكر ومجموعته في إحداث تغيير مهم في بنية القرية والمجتمع العراقي من خلال الاهتمام بالأرياف والتشجيع على الهجرة المعاكسة للقرويين الذين تركوا قراهم وسكنوا أحزمة المدن، إضافة إلى ما سمي في حينه بالحملة الوطنية لمحو الأمية التي ركزت فعالياتها في الأرياف، إلا إن الطرف الثاني كان يؤسس شيئا آخر يناقض توجهات البكر ويعمل على تكريس العشائرية والمناطقية من خلال تكثيف تلك العقلية في المدن ومفاصل الدولة المهمة في الدفاع والداخلية والتعليم، حتى عشية الحرب العراقية الإيرانية وبداية عسكرة المجتمع وفصله إلى مناطق ومذاهب وأعراق واستكمال عملية ترييف المدن.

وبذلك تكلست تلك العقلية والثقافة التي اعتمدت العشائرية والمناطقية في مفاصل مهمة من المجتمع وخلال ما يقرب من ثلاثين عاما غزت تلك العقلية والسلوك والانتماء أغلبية المدن بمظاهرها وتقاليدها حتى تسببت في مسخ وضياع هويتها أمام طوفان الأمية التي عادت مكللة بالأمية الحضارية وأفواج من القرويين العشائريين ذوي الرتب الحزبية والعسكرية والأمنية التي أنتجتها ماكينة إعلام السلطة وسياساتها لعقود طويلة في تسطيح العقول وتقزيمها وغلق حدودها وقنوات اتصالها حتى تحول العراق عشية الحرب والاحتلال والسقوط إلى قرية من قرى الخمسينات من القرن الماضي، لا يفقه أي شيء مما يدور حوله وهو المقطوع والممنوع عن كل ما يمت بالحضارة من صلة بدءا بالجامعات والمعاهد ومراكز البحوث والدراسات والصحف والمجلات وانتهاءً بالهاتف النقال والانترنيت وأجهزة استقبال القنوات الفضائية، واقتصرت بلاد النهرين العظيمين ونفوسها الذي يقارب الثلاثين مليونا على ما يضخه النظام على طريقة مفردات البطاقة التموينية المهينة، والتي أصبحت الحبل السري للمواطنة العراقية التي كان يريدها النظام السابق ويستخدمها ضد مواطنيه؟

واليوم وبعد ما يقرب من سبع سنوات عجاف كان يفترض أن تكون سنوات خير وسلام وازدهار وبناء، لكنهم أولئك الذين دمروا العراق طيلة أربعين عاما ما زالوا يديمون نافورة الدماء والجدب ويخلطون الحابل بالنابل لتختلط الأوراق ويتساوى فيها الانتهازي والمناضل ولهذا ترى العقلية والسلوك العشائري ما تزال مهيمنة على معظم مفاصل الدولة وحكامها وبمختلف المستويات وفي كل البلاد، بل وزادت حدتها من خلال دعم الحكومة والمتنفذين في مفاصلها على مقادير البلاد سياسيا واجتماعيا، فهم يكرسونها ويعملون على إدامتها وتفعيل آلياتها البدائية حتى في المدن التي يفترض أنها أي تلك الثقافة أقل سطوة، إلا إننا نشهد عمليات تثوير حادة لتلك العقلية والسلوك من خلال المؤتمرات العشائرية التي تعقدها الحكومة وتدعمها الأحزاب والكتل المتنفذة في البلاد.

وبذلك تتجه البلاد بهذه الحمولات والأثقال القبلية والعشائرية وسلوكياتها وتقليدها في إيصال شيخ العشيرة أو من يمثله إلى دفة الحكم والنيابة بولاء معروف ومحسوم للعشيرة والقرية أو المنطقة بعيدا عن مفاهيم المواطنة والمدنية، هذه الانتخابات التي ستجري بعد عدة أشهر يفترض أن تنقل الدولة ومؤسساتها نقلة مهمة في اتجاه تكريس أسس ومبادئ العراق المدني الجديد وهي تحمل معها إلى صناديق الاقتراع تحت تأثير تلك الثقافة، مجاميع مهمة من المرشحين حاملي تلك الفايروسات التي ساعدت في تأخير تقدم البلاد ونموها وتطورها منذ تأسيس الدولة وحتى يومنا هذا.

اعتقد جازما إن ديمقراطية في بلاد تنتهج الأسلوب العشائري والولاء القبلي والقروي في حياتها وما يزال أكثر من نصف سكانها من الأميين ستكون ديمقراطية عرجاء ولن تنتج إلا مؤسسات معاقة جينيا؟
العشائر والانتخابات العراقية؟

من الصعوبة بمكان أن يتكهن المرء أو المراقب للإحداث الجارية في عراق يتحول إلى نظام اجتماعي وسياسي يتقاطع مع كل ما ورثه من نظم وتقاليد وأعراف وسلوكيات وثقافة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية على المستويين الفردي والجمعي، شكل ونوع المجلس النيابي القادم على ضوء المعطيات التي تفرزها هذه المرحلة الانتقالية، حيث سيادة العقلية القروية والعشائريات المقيتة والمتخلفة والمغمسة بالمذهبية والمناطقية التي قسمت العراق لا إلى جهاته الأربعة المتعارف عليها بل إلى آلاف القرى ومئات البلدات والمدن وما يتبع ذلك من عشائر وقبائل وشيوخ وأغوات ورؤساء أفخاذ وأرجل وانتماءات وولاءات ومواطني الداخل ومعارضي الخارج والتي لها علاقة بأي شيء إلا العراق ويمكن تعريفها بأي مفهوم إلا مفهوم المواطنة العراقية التي تعلو على أي شيء؟

فقد أدمنت كثير من هذه المكونات القبلية ومفاصلها الإدارية ( الشيوخ بموديلاتهم الثلاث وبالذات أولئك الذين تمت صناعتهم وتطويرهم في مختبرات دائرة العشائر في ديوان الرئاسة الأسبق- رئاسة صدام حسين ) الإلحاق بالسلطة والحكومة والعمل معها بأي شكل من الأشكال الذي يوفر لها المال والغرائز والوجاهة والحصول على الامتيازات الباطلة على أسس المكانة العشائرية وكمية الخدمات الخاصة التي تقدمها للسلطة في أشكالها الفردية أو الحزبية أو المالية، وقد شهدنا خلال العقود الأربع الماضية دور أولئك الشيوخ والوجهاء ( إلا القلة القليلة منهم ) في مآسي العراق وبالذات في الحروب التي أنتجها النظام على الصعيدين الداخلي والخارجي، فقد كان دور هذه المجاميع دورا شائنا حينما تحولت إلى أفواج من المرتزقة التي أطلق الشعب عليها تسمية ( الجحوش ) في كوردستان العراق وشاركت في عمليات الإبادة الجماعية والسلب والنهب وتخريب المجتمع طيلة ما يقرب من أربعين عاما.

وفي بقية أجزاء العراق لم يكن دورها اقل من تلك المجاميع في الشمال فقد كانت عيون النظام ومسامعه في مراقبة المعارضين والمقاومين له وساهمت في معظم عمليات التغيير الديموغرافي في محافظات الموصل وكركوك وديالى وتكريت وبغداد وغيرها من مدن العراق، وبينما كان الشعب يتلوى جوعا وفاقة من اثر الحصار بمرتبات لا تتجاوز عشرة دولارات شهريا، كان شيوخ العشائر يتلقون ملايين الدنانير من رأس السلطة في بغداد مقابل تلك الخدمات الخاصة التي كانوا يقدمونها للنظام.

ولن ينسى العراقيون مواقفهم أيضا عشية سقوط النظام وقيامهم بعمليات الحواسم في النهب والسلب بالاتفاق مع النظام السابق لكل ممتلكات الدولة ومخازنها بما فيها مقتنيات وأثاث القصور الرئاسية في العاصمة بغداد والموصل وتكريت والبصرة إلا من استحى من تاريخه وسمعة أجداده وللأسف كانوا قلة لا تخضع للقياس العام.

ومنذ تولي الحاكم الأمريكي ولاية العراق بعد هروب رئيسه المشين وانهيار جيشه وتبخره في ساعات انقلبت هذه المجاميع إلى أكثر الحلفاء حنانا وحبا للحاكم الجديد وأكثرها تنسيقا أيضا مع ما يسمى بالمقاومة فهي التي تتغدى على موائد الحاكم الأمريكي وسفيره بينما تفتح أبواب مضايفها وبيوتها لأمراء القاعدة ورفاق الأمس القادمين من دهاليز عواصم دول الجوار ومخابراتها، وهكذا تعمل منذ سقوط النظام السابق وحتى يومنا هذا حيث تضع رجلا في الجنة وأخرى في النار طمعا في الاثنتين كما فعلها احدهم حينما سألوه عن معنى أن يكون احد ولديه مع الإمام علي بن أبي طالب والآخر مع معاوية ابن أبي سفيان فقال: مع الأول لا اخسر نصيبا من الجنة وفي الثاني ابقي على نصيبي من الدنيا!؟

واليوم وقد بدأت عمليات الهرولة العشائرية باتجاه غنائم الانتخابات ومقاعد مجلس النواب المسيلة للعاب التنابلة والانتهازيين من متربصي الفرص ومنتهزيها ومساحي الجوخ ومدمني السحت الحرام والأموال القادمة دون جهد أو تعب يساويها.

إنهم مجاميع من بعض شيوخ ورؤساء الأفخاذ الذين تنتجهم الأنظمة الفاسدة عبر التاريخ وليس عبر ديوان رئاسة صدام حسين فقط التي أبدعت في تصنيفهم إلى موديلات أ و ب وج ومستويات أدنى وأعلى حسب ما يستطيع ذلك الشيخ أن يجرجر وراءه أعدادا من المرتزقة على أشكال ما كان يفعله أمراء الأفواج الخفيفة وسرايا أبي فراس الحمداني المعروفة في إقليم كوردستان بــ ( الجحوش ) سيئة السمعة والصيت، التي لم تكن تتوانى عن قتل أو نهب وسلب ذويها من أجل مصالحها وجيوبها لدى النظام.

والغريب إن معظم القوى السياسية الفاعلة اليوم ما زالت تعتمد تلك المجاميع من الشيوخ الذين أدمنوا منافقة السلطات والتعامل مع كل أشكالها وأنواعها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، حيث بدأت مؤتمرات رجال المهمات الخاصة في التدليس وحياكة التوافقات والأحلاف العشائرية لصالح مرشح أو مجموعة مرشحين يتم نقلهم إلى مجلس النواب القادم ولكل ( رأس ) أو ( نفر ) من المرشحين ثمن بلغ حسب ما تناقلته الأخبار في كثير من المحافظات الشمالية ( نينوى، كركوك، ديالى، تكريت ) ما بين ثلاثين وخمسين ألف دولار، بينما تقول الأخبار القادمة من الشارع الجنوبي والغربي إن السعر يتراوح هناك بين العشرين والثلاثين إلف دولار للمرشح الواحد يتقاضاه الكيان أو الحزب المتنفذ في المنطقة؟

وإذا ما صدقت مثل هذه الأخبار ( وليس هناك دخان بلا نار ) ستكون ملامح المجلس النيابي القادم واضحة جدا، خصوصا إذا ما عرفنا إن دول الجوار ما زالت مصرة على أن يكون لها ممثلين فاعلين في المجلس القادم؟

هذا المطر من ذلك الغيم؟

هذا المطر من ذلك الغيم؟

على ابواب ظهور نتائج الانتخابات العراقية العامة وقرب اعلان قيام جمهورية العراق الثانية على حد تعبير وزير الخارجية هوشيار زيباري دعونا نطل على السنوات الماضية التي امتلأت سماواتها بغيوم كثيفة حملت كل شيء إلا المطر الحقيقي الذي كانت الارض العراقية العطشى تنتظره بعد سنوات عجاف من الجفاف والجدب والحرمان؟

فحينما بدأت اول حكومة عراقية بتولي مسؤولياتها في عراق دستوري يفترض أن يكون جديدا في نظامه وفلسفته ورؤيته ومعالجاته لذلك الإرث الأسود من تاريخه السياسي وتعاطيه مع المواطن والمواطنة بعد عقود من نظام الحروب والمعتقلات ، تصورنا جميعا بأننا نضع خطواتنا الدستورية الأولى لبناء عراق خال من العنصرية والتطرف وثقافة الموآمرة والتحالفات السوداء تحت شعار عدو عدوك صديقك بصرف النظر عما ستؤول اليه الامور.

ولكي لا نجزئ الموضوع دعونا نتذكر الآن مثلا عراقيا يتداوله ابناء الموصل كثيرا ويقول:
( هذا المطر من ذلك الغيم ؟ )
إشارة الى افعال مورست سابقا وأدت نتائجها لاحقا، فمع تولي الحكومة امور البلاد وشؤونها بعد انتخابات 2005م، كان هناك ملفات مهمة أمامها ولعل في مقدمة تلك الملفات، الملف الأمني ومن ثم ملفات الإرث الأسود لحقبة التعريب والتبعيث والقبور الجماعية والانفال والتشويهات الديموغرافية في كركوك والموصل وديالى الى النجف وكربلاء والحلة وبغداد، وكان المواطن ينتظر ما ستقوم به اول حكومة منتخبة في تاريخه منذ ما يقرب من نصف قرن، ويفترض في من يتولاها أن يكون طاهرا من كل آثام ذلك النظام وأفكاره وسلوكياته بأي شكل من الأشكال، ولعل أهم ما كان ينتظره المواطن هو تطهير جهازي الدفاع والداخلية من الخروقات والاندساسات التي ادخلها الامريكان من صفوف حزب البعث وبقاياه الادارية والعسكرية الى كلا الوزارتين.

وما حصل خلال الاعوام الاربعة الماضية هو مزيد من الخرق والاندساس في معظم مفاصل الدولة الجديدة باستثناء إقليم كوردستان الذي حصن مؤسساته واجهزته واقليمه ضد أي خرق سواء من بقايا النظام السابق او من أي من المتطرفين والإرهابيين بما جعله واحة للسلام والأمان والازدهار، بعد أن اجرى عملية تصالح وإعفاء مشروطة مع تلك المنظمات التي أسسها النظام السابق في الإقليم والتي اثبت الكثير منها خلال أيام قلائل من بدء الانتفاضة وطنيته وارتباطه بمصالح شعبه اكثر من ارتباطه بالنظام السابق، فكان دورا متميزا في كثير من الصفحات ايام انتفاضة الشعب في ربيع 1991م، لقد كانت تجربة الاقليم في غلق ملف المرتزقة واذناب النظام السابق والمتورطين معه بشروط العمل الوطني وعدم العودة نهائيا وبأي شكل من الاشكال الى ذلك الماضي الاسود تجربة رائعة أدت الى استقرار المجتمع والإقليم عموما.
أما ما حصل في بقية انحاء العراق بعد سقوط النظام وما اقترفه الحاكم المدني برايمر من اخطاء كارثية هو ومجموعة الادارة المدنية، اضافة الى التعاون بين بعض مفاصل الجيش الامريكي وبقايا النظام السابق في اقذر عملية عرفتها الشعوب والدول تلك التي سميت بالحواسم حيث تم سلب ونهب كل ممتلكات الدولة ومخازنها ومتاحفها وخزائنها من قبل رجال الحكم المنهار وقيادات البعث وادارييه الذين يمتلكون اسرار البلاد ومخازنها ودوائرها وممتلكاتها مع مئات الآلاف من المجرمين الذين اطلق سراحهم قبل الحرب بعدة اشهر في ما سمي بعملية تبييض السجون، كل ذلك حدث تحت انظار الإدارة الأمريكية في العراق بل وفي كثير من الاحيان بمباركتها وبالذات في محافظات الموصل وكركوك والبصرة وبغداد حتى أطلق كثير من سكان الموصل لقب الرفيق على ( والي ) الموصل بيترايوس حينما كان قائدا للفرقة 101 التي تمركزت في المدينة واطرافها.

وما زال اهالي الموصل يتذكرون تلك الطوابير الطويلة من الرفاق واعضاء الفرق والشُعب من قيادات البعثيين الذين دعاهم ( الرفيق ) بيترايوس لأعلان براءتهم من الحزب ( قالوا للحرامي احلف قال جاء الفرج ) وتعيينهم فورا في اجهزة الشرطة والحرس الوطني والكمارك وحراسة المؤسسات(!)، في أول محاولة للاخوة المحتلين في صناعة الغيوم التي اصبحت امطارا سوداء لاحقا في ما رأيناه منذ اكتوبر 2004م وحتى يومنا هذا؟

والغريب ان مفاصل مهمة جدا في الحكومة الاتحادية في بغداد تصل الى درجة مركز القرار، كانت تحتضن تلك المجموعات الطفيلية من بقايا النظام وحلفائه وشركائه وازلامه وتجار الاجندات الدولية وبالذات الحالمون بولاية الموصل، حيث تمت رعايتهم ودعمهم حتى ان اقتربنا من انتخابات مجالس المحافظات الاخيرة، بانت عورات تلك المفاصل الحكومية في تعاملها مع تلك المجاميع الفاشية ودعمها بقوة من اجل ايصالها الى دفة الحكم ظنا منها بانها ستنجح في الضغط على كتل سياسية وبرلمانية اخرى في تحجيمها او منافستها على السلطة والثروة والنفوذ من خلال دعمها لتلك المجاميع والقوى المعادية اصلا لمبدأ العراق الديمقراطي الاتحادي.
ان استخدام هذه المجاميع كسلعة انتخابية او اوراق ضاغطة ومنحها فرصة التغلغل والاندساس في الحياة السياسية سيترك اثارا بالغة على مستقبل البلاد وسرعة نموها وتطورها، لانها اي هذه المجاميع ما هي الا قوى ساحبة الى الخلف متقهقرة دوما الى الماضي ومحاولة اعادة الحياة اليه او صناعة بدائل مشابهة له، فقد اثبتت الاحداث منذ سقوط النظام انها متورطة تماما في كل انواع العنف في البلاد وهي واحدة من اهم اسباب التخلف الحاصل في العملية السياسية، وانها تقف بشكل مباشر امام تطبيقات الدستور ووضع العصي في عجلات التقدم وابطاء حركة البلاد في الاعمار والبناء معتبرة كل ما حدث ايام النظام السابق بحق ابناء العراق في كردستان ومدنها أو اهوار الجنوب ومدنه منجزات او في اتعسها مجرد اخطاء وتجاوزات، وهي بحق نتاج تلك الغيوم السوداء التي تمطر اليوم سموما واحقادا تشوه الزرع وتجفف الضرع وتلوث البيئة السياسية للعراق الجديد.

فهل سينجح هؤلاء الذاهبون الى مجلس النواب في اقامة الجمهورية العراقية الثانية التي ستطوي الى الابد تلك ثقافة العنصرية وعقلية التفرد والاستبداد، وتوقف انتاج تلك الغيوم الملوثة والامطار السامة؟

من رشح هؤلاء للانتخابات العراقية؟

قلنا في مقال سابق إن الدورة التي تسلم ( الراية ) بعد عدة اشهر لمجموعة اخرى من النواب المنتخبين، كانت رغم كل سلبياتها وما جرى في العراق تحت حكم تشريعاتها وسلطاتها وسلوك اعضائها والامتيازات التي حصلوا عليها دون الاهالي الذين وضعوا دمائهم على اكف ايديهم وذهبوا الى صناديق الاقتراع في اول حقبة الارهاب والذبح والتفخيخ بداية عام 2005م، قلت رغم كل ذلك كان البرلمان العراقي ( بدورته وتجربته الاولى ) افضل برلمان في التاريخ السياسي والدستوري في منطقتنا والتي تمر بظروف كظروف بلادنا وشعبنا الذي تعود على مجالس قرقوشية وبرلمانات هزيلة لا تعبر الا عن طبيعة النظام الحاكم منذ تأسيس الدولة في بدايات القرن الماضي وحتى سقوط نموذجها المتخلف في نيسان 2003م.


ورغم ان الكثير من اعضاء الدورة الاولى ايضا لم يك بمستوى التمثيل لشعب مثل شعب العراق ذاق الامرين من القهر والارهاب والدكتاتورية ومن مفاصل مهمة في الدولة الجديدة اكثر سوءً من تلك التي حكمت العراق ما يقرب من نصف قرن؟ فقد كان العضو في المجلس اكثر حرية في التعبير عن رأيه من أي مجلس اخر في المنطقة، بما في ذلك المحسوبين على النظام السابق وبقاياه التي اخترقت صناديق الاقتراع بمباركة من المناضلين وتزكية من الاحزاب الرئيسية، الى درجة إن احدهم تحت قبة البرلمان قال بملئ فمه حينما اتهمه زميل له بالبعثية فرد عليه انه شرف عظيم لي أن أكون كذلك(؟) وتصوروا معي لو كان المشهد معكوسا على ايام المجلس الوطني العراقي، وينبري احد اعضائه قائلا اتشرف بانتمائي لحزب الدعوة او المجلس او الديمقراطي الكردستاني او الشيوعي ماذا كان سيحصل له ولعائلته حتى الجد الرابع!؟


ولنعود الآن الى افواج الفاسدين ممن وصلوا الى برلماننا العتيد في دورته السابقة وممن يشدون الرحال لدورته الثانية، فاذا كان مبررا وجود هذا الكم غير القليل من الفاسدين والمعاقين والملوثين بآثام الماضي في الدورة الاولى لأي سبب فانه من المعيب حقا أن تصل مجاميع اخرى من اولئك المعاقين والسراق والانتهازيين وذوي العاهات السلوكية المعروفة لدى العراقيين الى مجلس النواب بدورته اللاحقة، وخصوصا اولئك الصاعدين على اكتاف المسؤولين الجدد وشركائهم في الظلام ممن يقومون بتنفيذ مآربهم وتجاراتهم ومقاولاتهم من خلف الكواليس، بما في ذلك غسل الاموال القذرة التي استحوذ عليها مسؤولي الغفلة الذين انتجتهم حقبة الاحتلال ومقاولاته وسقوط النظام الفاشي، وممن ساهموا واشتركوا في عمليات السلب والنهب التي اطلق عليها النظام في حينها بالحواسم؟


واذا كانت الدورة الاولى وما رافقها من ارهاصات التجربة الجديدة وغفلة او نية البعض المبيتة في إيصال مجاميع من هؤلاء النواب الى المجلس، مبررة الى حد ما فما بالك أن تصل اليوم مجاميع اخرى ربما اسوء بكثير من اولئك الاولين الذين تمت اعادة تجديد العديد من عضويتهم لا لشيئ الا لأنهم ادمنوا ما ذهبوا اليه ومن اجله وفي كل ذلك ليس للوطن العراقي واهليه أي دخل فيه من قريب او بعيد الا بما يتم استخدامه كوسيلة لتبرير وجودهم هناك؟


حقا من رشح هؤلاء!؟


وكيف تمت عملية تشخيصهم؟ وأي اساس أو آلية تم اعتمادها في ذلك؟ وهل اعتمدت المكونات السياسية وقوائمها السير الذاتية الوطنية والاجتماعية والاخلاقية والسلوكية والمصداقية المالية والشعور العالي بالمسؤولية تجاه الوطن من قبل هؤلاء؟ أم اعتمدت آليات ومواصفات البداوة والعشائرية المقيتة والشللية الحزبية ( الكروبات ) والمحسوبية والمنسوبية التي ابتلينا بها منذ الازل؟


واليوم ربما يتبادر الى اذهاننا وذاكرتنا الكثير الكثير من هذه الاسئلة وغيرها ونحن نشهد انتخابات العراق الثانية وصور وملصقات ودعايات على الجدران والشاشات والاذاعات والصحف لمجاميع من المرشحين الذين تجتمع فيهم وتدور حولهم الكثير من علامات الاستفهام السياسي والوطني والمالي والاجتماعي والاخلاقي والسلوكي في الحقبتين ما قبل سقوط النظام وما بعده طيلة السنوات الستة الماضية، وربما تدور وتحوم معظم الشكوك والتساؤلات حول من تلطخت أياديهم ليس بدماء العراقيين هذه المرة وإنما بأموالهم وشرفهم وسمعتهم ومستقبلهم ممن أدمنوا طيلة اربعين عاما حياة التدليس والامعية والمشاغبة والتسلق والسحت الحرام، في الوقت الذي كان الشعب تحت وطأة الحروب والحصار كان هؤلاء لا يتوانون عن تقديم كل انواع الخدمات لذلك النظام لينعموا بالسلام والأمان والسحت الحرام، بينما يموت المناضلون تحت التعذيب في سجون ومعتقلات النظام وتعيش أسرهم واطفالهم ضنك العيش في ظل الرعب والإرهاب، وحينما سقط النظام وانهارت مؤسساته كانوا اول من استقبل المحتلين ايضا بالاحضان والتدليس والعناق، وشاركوا بكل جدارة في كل عمليات الحواسم المعروفة التي جرت في معسكرات ومقرات ودوائر الدولة ومخازنها ومكتباتها وآثارها وجامعاتها وحتى مدارسها الابتدائية؟


ويبقى السؤال المر لمن رشحهم:


هل يمكن لهؤلاء أن يكونوا شجعانا شرفاء يمثلون الشعب ومعاناته ويدافعون عن مصالح البلاد العليا؟






هل حقا يستحقون اصواتنا؟

لقد كان ثمن اصوات الناخبين ايام الدكتاتوريات لا يعني اكثر من وريقات صفراء مسلوبة الإرادة، يتم دحسها في صناديق مغفلة يراقبها موظفون حكوميون وامنيون مكلفون برصد من يخرج عن خارطة الطريق المعدة لكل الناخبين من أبناء الشعب والأمة لانتخاب القائد أو التابعين له من المناضلين و ( المستقلين ) الأشاوس، وربما لا تعني ايضا في نهائيات اللعبة إلا تمثيليات إعلامية يتسلى بها الحزب القائد والرئيس الضرورة وملحقاته من المناضلين التابعين واجهزة الاعلام المختلفة ومنظمات الجامعة العربية التي عاهدت الله على تزكية كل الانتخابات والاستفتاءات لدى اعضائها يسارا ويمينا، ودائما أختام التزكية الخضراء التي تصف الانتخابات بالنزيهة والعادلة والمنصفة جدا حاضرة مع مندوبيها أينما حلوا أو ارتحلوا!

ومن ذلك أدرك المواطن الناخب أن ذهابه الى صناديق الاقتراع من عدمه لا يؤثر إطلاقا على نتائج الانتخابات بل يؤثر على أمنه الشخصي ورزق عياله ومستقبلهم مع النظام، ولذلك كنا نشاهد طوابير طويلة وفي غاية النظام أمام عدسات التلفزيون والمراقبين الدوليين المدعوين من قبل ( أمانة سر القطر ووزارة الإعلام المؤدلجة ) يرافقهم الرفاق في مكتب المنظمات الشعبية ( المخابرات ) من حي الى آخر ومن قرية الى مدينة ليشهدوا عظمة الديمقراطية في ( عهد الحزب والرئيس القائد )، وخاصة اولئك المراقبين الدوليين القادمين من كوبا وكوريا الشمالية وسريلانكا وبنغلاديش وجيبوتي؟

وخلال هذه العقود الطويلة من الإرهاب والاستبداد والاستكانة وتغييب الآخر وتحريم الرأي وتسطيح عقول الأهالي ( وخصوصا لدى الشرائح الأوسع من السكان في الأرياف والأحياء الفقيرة ) وسلب إراداتهم وسحق أي مقاومة تذكر، تفشت الاتكالية واللامبالاة وعدم الشعور بالمسؤولية وانحلال مفهوم المواطنة وتقزيمه في قرية او عشيرة او بيت من البيوتات، حتى اصبح الوطن لا يعني اكثر من تلك الحدود الضيقة التي لا تتجاوز القرية او المحلة، وقد اثبتت الأحداث بعد انحلال الدولة ومؤسساتها وهروب ( الرئيس القائد العام ) والحكومة في نيسان 2003م، تداعي كثير من تلك المفاهيم والشعارات الكاذبة التي كان يطبل ويزمر لها النظام طيلة ما يقرب من اربعين عاما عجاف، حتى تحولت قطاعات واسعة من الأهالي في غضون ساعات الى مجاميع من السراق والسلابة، ينهبون ويسلبون اموال الدولة ونفائسها حتى يخرج عليهم صدام حسين في واحدة من خطبه المرسلة من أعماق تلك الحفرة المعروفة، فيحل لهم كل ما سرقوه ونهبوه من أموال الدولة ومخازنها، ولكي يتحول الكثير منهم بعد اقل من سنتين الى حيتان كبيرة ليس في المال والسحت الحرام فقط بل حتى في السياسة ومؤسسات الدولة الجديدة التي استطاعوا اختراقها عبر القطار الأمريكي ثانية.
واليوم وبعد ما يزيد على نصف قرن من الانظمة الدكتاتورية المتتالية التي انتجت العديد من الحروب المدمرة، وعشرات الألاعيب السياسية التي تمخضت عن إنتاج مجالس مشوهة وعرجاء تحتلها أفواج من المنافقين والسراق والمنتفعين وهزازي الرأس والاكتاف، يتوجه الناخبون العراقيون للمرة الثانية خلال خمس سنوات لانتخاب ممثليهم الى مجلس النواب الذي شاهدنا فعالياته وسلوكيات اعضائه ومجموعة القوانين والتعديلات التي انجزها خلال دورته مقارنة مع ما حصل عليه اولئك الأعضاء، الذين حشرتهم القوائم المغلقة وساقتهم الى مقاعد لا يفقه معظمهم معناها إلا من خلال تلك الامتيازات التي كادت أن تمسخ انسانية اغلبيتهم، بل تسببت في دفع افواج اخرى من المعاقين وطنيا واجتماعيا وفكريا وثقافيا من أبطال الحواسم التي أعقبت سقوط النظام، للتهافت الى تلك المقاعد طلبا للماء والكلأ ولكن هذه المرة تحت شعارات براقة تتبناها كتل سياسية وتدعمها احزاب وعشائر وشيوخ ساهموا بكل جدارة في كل الدبكات والأهازيج والمناسبات؟
لقد كانت الدورة السابقة رغم كل ما فيها من عيوب ومن اعضاء معاقين افضل مما شهدته البلاد خلال النصف قرن الأخيرة في مجال المؤسسات التشريعية وهي بالتالي بكل سلبياتها وايجابياتها تأتي في التقييم كدورة اولى لبرلمان عراقي منتخب بشكل حقيقي، وان كان الكثير من اعضائه لا يمثلون إلا انفسهم وارادات من رشحهم من القوائم وليس الشعب، وفي هذه الدورة التي يتنافس فيها الآلاف من المرشحين يتبادر الى اذهاننا الكثير من التساؤلات وربما في مقدمتها:
كم كانت الفائدة المرجوة من الدورة الاولى في انتقاء وتشخيص المرشحين من قبل كتلهم السياسية؟
وتحت أي اعتبارات تمت عملية الترشيح؟
وهل حقا إن هؤلاء المرشحين ذاهبين الى حيث القيم العليا ومصالح البلاد والعباد؟
وهل هم فعلا خير من يمثل الاهالي في تاريخهم وانتمائهم ووطنيتهم وأخلاقياتهم وثقافتهم ومصداقيتهم والمكان الذي سيشغلونه لأجل الوطن والشعب اولا؟

وأخيرا وليس آخرا يبدو هذا السؤال صعب ومحير ايضا:

( هل حقا يستحقون اصواتنا؟ )

هؤلاء المرشحون الى مجلس النواب العراقي؟

سأترك السؤال والإجابة لكل ناخب قبل أن يصل صندوق الاقتراع !

الانتخابات العراقية والدروع البشرية؟

نتذكر جيدا واحدة من اكثر اساليب النظام السابق ميكافيلية واستهتارا بالقيم الانسانية حينما كان يستخدم المدنيين في حروبه ويضعهم دروعا بشرية تارة في قصوره وتارة اخرى في المعسكرات ومصانع الاسلحة ومقرات حزبه بغية الاذعان الى مطاليبه او البقاء في السلطة خلف تلك الدروع من النساء والاطفال، وتارة اخرى في صراعاته مع القوى السياسية المعارضة له، حينما كان يعتقل افراد الاسرة من الاطفال والنساء والشيوخ ويساوم على تسليم او استسلام اولادهم المعارضين لنظام حكمه والعاملين في صفوف المعارضة في كردستان او في اوربا.

واذا كانت تلك السلوكيات مبررة ذات يوم لأن القائم بها دكتاتور طاغي وحزب ميكافيلي فاشي فما بالنا اليوم والعديد من الكتل والاحزاب السياسية تنتهج من ناحية المبدأ نفس النهج والمنحى في استخدام المرأة والعشائر استخداما ميكافيليا للوصول بأعلى عدد من هؤلاء الى كراسي البرلمان ليتم توجيههم عبر الريمونت كونترول السياسي من مقرات تلك الكتل والاحزاب كما صرح لي احد الاعضاء القياديين لكتلة برلمانية اختلط فيها الحابل بالنابل حينما سألته عن الخليط غير المتجانس في تجمعهم المثير قوميا وطائفيا وايديولوجيا فقال يا أخي المهم أن نحقق أكبر عدد من المقاعد وليس المهم نوع من سيذهب الى هناك لأن التوجيه من هنا وأشار بيده الى جهاز الريمونت كونترول!؟

المؤلم حقا ونحن في واحدة من اهم مراحل تطور حياتنا في التحول الى نمط جديد يفترض أن يكون اكثر تحضرا في الحياة الاجتماعية والسياسية، ان تستخدم المرأة كوسيلة لأستجداء الاصوات ومن ثم الاستحواذ على مقاعد اكثر للكتلة أو الحزب بغض النظر عن نوعية تلك المرأة ووعيها ومستواها العلمي او الثقافي او الوطني واحيانا كثيرة بصرف النظر حتى عن العمق النضالي والمصداقية الاجتماعية لتحقيق تلك الغاية في عدد مقاعد البرلمان التي سيتم الحصول عليها بواسطة النصف المشلول من المجتمع وذلك باستخدامه لعناصر مشلولة من هذا النصف بل ومغيبة تماما عما يحصل لبني جنسها، بدلا من أن يعمل على اختيار عناصر فعالة قابلة لأجراء التحديث والتحول في مجالات الحياة عموما وفي مقدمتها العلاقات الاجتماعية ودور المرأة وحقوقها والتربية الاسرية الحديثة التي تعتبر منطلق لأجراء أي تحول جذري في المجتمع بعد تحرير المرأة من تلك القيود.

وفي جانب آخر لا يقل خطورة وتراجعا عن استخدام المرأة كوسيلة للحصول على مزيد من المقاعد، راحت الكثير من الكتل والاحزاب السياسية وللاسف الشديد الكثير منها من المحسوبين على الديمقراطيين واللبراليين، تغازل مجاميع من شيوخ العشائر ورموزها من خلال ترشيح العديد منهم او من تابعيهم الذين عرفوا عبر تاريخ بلادنا وبالذات فترة حكم البعث وتصنيفهم الى موديلات واستحداث دائرة لهم في رئاسة الجمهورية وتحويلهم الى مخبرين وطبالين للسلطة ورأسها بامعيتهم السلطوية وتبعيتهم الدائمة لكل السلطات والانظمة وانتهازيتهم المعروفة للحفاظ على مصالحهم المرتبطة دوما مع النظام بصرف النظر عن ماهيته او شرعيته، الا القلة القليلة التي اختارت خندق الشعب وحافظت على قيمها واصالتها، والغريب انها مبعدة حتى الان!؟
حقا انها ممارسة لا تقل خطورة وسوءً عن تلك التي كان يستخدمها ذلك النظام في دروعه البشرية لحماية نفسه وابقاء نظامه اطول فترة في الحكم، واليوم يتم استخدام النساء بصرف النظر عن النوعية وبعض العشائر وشيوخها بصرف النظر عن تلك العقلية التي تصنف بأنها واحدة من اهم اسباب تخلفنا وتقهقر مجتمعاتنا وبلادنا ومدنيتها. اذ كيف سيكون حال ذلك البرلمان الذي يضم عناصر من هذا النوع والشكل، وأي سياسيون ومشرعون يمكن ان ينتجهم هذا المجلس النيابي اذا كانت الغاية هي الامتيازات الشخصية والتحريك بالريمونت كونترول لأتخاذ القرار وتشريع القوانين، بينما تعتبر السلطة التشريعية واحدة من أهم مدارس اعداد السياسيين والتشريعيين وقادة البلاد في كل العالم المتحضر وفي كل مناحي الحياة!؟