الثرثرة وحبل المشنقة؟
كفاح محمود كريم
ذكرني جهاد الخازن في مقال له وهو يتحدث عن الثرثرة والهذر على صفحات جريدة الحياة قبل ايام عديدة ( الصمت أسلم من الهذر )*، بقصة رجل اعدم في صيف عام 1989م بسبب تعرضه لذات الدكتاتور العراقي صدام حسين بالشتيمة والسب في العاصمة اربيل، حيث كان يحتسي الخمر في احد نواديها الليلية مبتدأً بالتهكم والسخرية من سلوك الدكتاتور حتى بلغ الكأس الثالث أو الرابع فأدرك السباب والشتيمة وهو سكران ثمل!؟
لم يمض على استدعائه اكثر من ثلاثة ايام لترسل جثته هامدة ملونة من شدة التعذيب الى ذويه!؟
ومن اقليم كردستان العراق الى وسطه في مدينة الحلة وقبل حادثة صاحبنا في اربيل بعشر سنوات تقريبا أي في شتاء 1979م تذكرت شخصا آخر وكان محاميا خمارا حينما يخرج من احد النوادي ثملا الى الشارع تواجهه صورة كبيرة لصدام حسين، فيقترب منها ليتبول على جدارها العالي رافعا رأسه ومخاطبا صاحبها ساخرا ومتهكما، حتى ادركه رفاق العقيدة ليقودوه ( بالجلاليق والكفخات ) الى اقرب مقر من مقراتهم ويختفي سنوات طويلة ليخرج فاقدا عقله بالتمام والكمال هائما بين الطرقات وهو ما يزال يخاطب صاحب الصورة في الازقة والشوارع كلما رأى جدارية كبيرة قائل: ما خاف منك حتى لو صرت محافظ الفوار*؟
وأعود بالذاكرة قليلا الى الوراء السياسي العراقي المؤلم في حادثة بائسة مضحكة مبكية من حوادث ما حصل بعد فشل محاولة العقيد عبدالوهاب الشواف الانقلابية في الموصل ضد الزعيم عبدالكريم قاسم عام 1959م، وحالة الفلتان التي اجتاحت المدينة واختلط فيها الحابل بالنابل، ومن بين ما حصل كانت هناك جثة مرمية على قارعة الطريق ويبدو انها لضابط كبير من المشتركين بـ ( المؤامرة )، فجأة جاء رجل فضولي من العامة وبدأ يركل الجثة ويشتم صاحبها قائلا: هذه نهاية الخونة!؟*
بعد اقل من اربع سنوات اي بعد انقلاب عبدالسلام عارف واستحواذ البعثيين على مفاصل مهمة من الحكم، القي القبض على هذا الفضولي لتقديمه الى محاكمة لم تدم اكثر من ساعات فيحكم بالاعدام رميا بالرصاص كونه كان جنديا، وقد تبين فيما بعد انه من مراتب ذلك الضابط القتيل الذي عرف بتشدده العسكري ولا علاقة له بأي شكل من الاشكال لا بالضابط ولا بالحاكمين آنذاك؟
واذكر من السجالات الاوربية واحدة من اطرف ما سجلته لنا الذاكرة السياسية في اروقة البرلمان، ففي ايطاليا كان هناك دوما صراع او تنافس بين الحزب الشيوعي الايطالي والحزب الديمقراطي المسيحي، وفي واحدة من سجالاتهم، مرَ رئيس الحزب الديمقراطي المسيحي من امام رئيس الحزب الشيوعي ولم يبادره بالسلام فقاله له الآخر معاتبا لماذا لا تسلم فرد عليه قائلا: انا لا اسلم على الحقراء!؟
فسلم رئيس الحزب الشيوعي عليه مباشرة وصافحه رغم ذلك قائلا له: لكنني يا عزيزي مورو انا اسلم عليهم بحرارة!؟
ورغم ان البعض يعتبر هذا النوع من النقد وسيلة من الوسائل للتشهير بالنظام ورموزه واعتباره اسلوبا دعائيا واعلاميا كما يحصل في كثير من الدول الديمقراطية العريقة حيث يستخدمون في كثير من الاحيان الشتائم والتشهير بالانظمة والاشخاص من خلال اغانيهم او شعاراتهم او هتافاتهم، الا ان السؤال يبقى في بلادنا وحتى يومنا هذا هو ما مدى صلاحية هذا الاسلوب في مجتمعاتنا وطبيعة تكوينها النفسي والقيمي!؟
ثرثرة وهذر تقود الى حبل المشنقة!
مابين الشتيمة والادعاء الكاذب تفصل الرأس عن الجسد في ظل نظام دكتاتوري ظالم، وبصرف النظر عن مشروعية ما حصل في الحوادث الثلاث من قبل النظام الحاكم إلا أن اسئلة مهمة تطوف دائما مع هكذا أحداث:
ترى هل ان الشتائم والقذف والثرثرة الفارغة تعبر عن موقف سياسي سليم، او نمط واسلوب من اساليب معارضة النظام، سواء كان صاحبها صاح او سكران او مبرمج كما حصل لصاحبنا في اربيل والآخر في الحلة؟
وهل أن الكثير من تصريحات سياسيينا الجدد وفنتازياتهم وبالذات تلك التي تلغي الآخر او تهمشه وتشيع الكراهية والبغضاء وتبرر الارهاب والقتل والتطهير، تقع تحت طائلة الثرثرة السياسية والهذر الساذج أم أنها فعلا تعبر عن أفكارهم وآرائهم التي سيحكمون بها البلاد!؟
واذا كان النظام قد اعدم او اتلف من شتم شخص رئيسه، فما عقوبة من يتسبب في ثرثرته وتصريحاته في إشاعة كراهية شعب او عرق او مذهب او دين في بلاد تكونت اساسا من هذا الفسيفساء!؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقال الكاتب جهاد الخازن:عيون وآذان (الصمت أسلم من الهذر) في جريدة الحياة اللندنية
السبت 03 يوليو 2010
* الفوار: قرية تقع الى الجنوب الشرقي من مدينة الديوانية وكانت يومها مركزا لتجمع الغجر (الكاولية ).
* احداث 10 آذار 1959م بعد فشل محاولة الشواف الانقلابية في الموصل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق