لقد أعتقد البريطانيون في وقت مبكر من القرن الماضي انعدام مفهوم المواطنة لدى معظم سكان العراق أو ربما هشاشته مقارنة مع مناطق أخرى من العالم الذي كان ما يزال ( ينعم ) بشمس جلالة الملكة التي لا تغيب، وإن سكان هذه الولايات الثلاث ( بغداد والبصرة والموصل ) تنتمي إلى عشائرها ومناطق سكناها ( قرى ومدن ) أكثر من انتمائها إلى مفهوم الشعب والوطن العراقي، وليس أدل على ذلك من عجزهم في العثور على مرشح متفق عليه لعرش مملكة العراق المزمع إنشاؤها بعد احتلاله لبلاد ما بين النهرين الذي خرج للتو من تحت عمامة دولة بني عثمان.
فلم تتفق العشائر والبيوتات في الولايات الثلاث على ملك يعتلي العرش لوطن يؤسس للتو بين هذه الولايات ومكوناتها، فكل عشيرة أو مدينة كانت تصر على أن يكون العرش من نصيبها، مما دفع الإدارة البريطانية إلى استيراد ملك من ارض نجد والحجاز ومن بيت عتيق لا تختلف عليه العشائر والمدن والقرى وهو الملك الهاشمي الشريف فيصل الأول، الذي أدرك منذ بداية توليه إدارة هذه البلاد مكوناتها وطوائفها وأنها ليست شعبا واحدا بل شعوبا وقبائلا، أديانا ومذاهب، في أول إطلالة له على تركيبة العراق ومكوناته العرقية والدينية والمذهبية.
ورغم هذا التنوع والاختلاف قرر البريطانيون تأسيس مملكة العراق من هذه الشعوب والقبائل التي أرادت لها الإدارة البريطانية أن تكون واحدة من مستعمراتها تحت الانتداب، وزعمت إن ملكا هاشميا سيوحدها وسيخلق انتماءً لهذا الكيان بصرف النظر عن القرية والعشيرة والمكان، رغم شكوك الكثير من الساسة الانكليز بإمكانية توحيد هذه المكونات العرقية والدينية تحت عرش الملك الهاشمي.
وطيلة ما يقرب من ثمانين عاما لم تنجح كل الأنظمة السياسية التي توالت على حكم العراق من الاتفاق على تعريف موحد لمفهوم المواطنة الذي يرتقي بالانتماء للعراق أولا وأخيرا واعتبار الانتماء العرقي والديني مسالة شخصية لا علاقة لها بارتباط الفرد بالأرض والوطن، وخلال هذه العقود الطويلة سادت أنظمة سياسية كانت تمثل في معظمها عرقا واحدا ومذهبا دينيا من دون غيره في مفاصل القرار الرئيسية، وهي الأخرى سحقت تحت عجلات انقلاباتها تلك الطبقة المتوسطة في المدن لتسهل انتقال القرية تماما إلى مراكز القرار والقيادة والتوجيه مما قزم العراق إلى قرية صغيرة ومكوناته الى حزب سياسي بحسب انتماء رئيس الجمهورية وأصوله أو الحزب وإيديولوجيته كما فعلت مجموعة النظام السابق القبلية.
وليس ما حصل خلال ما يقرب من أربعين عاما في اختزال بلد من اعرق البلدان وشعوب من اعرق شعوب المعمورة في أصولها وحضاراتها في قرية وعشيرة تكاد تكون من اصغر القرى والعشائر قاطبة في العراق الا دليلا على ذلك وسببا رئيسيا لما آلت إليه الأمور بعد احتلال العراق وهزيمة نظامه السياسي وسقوط كثير من المفاهيم والثوابت ولعل أهمها موضوعة الانتماء والمواطنة، حيث ظهرت الانتماءات القروية والقبلية اقوى مما كانت عليه حتى في أول مراحل تأسيس الدولة العراقية إضافة إلى احتدام الصراع المذهبي إلى درجة الاقتتال والتذابح حد الإبادة والتطهير في كثير من الأماكن من العاصمة وفي أطرافها، ومن ثم تسلط الانتهازيين والنفعيين وانصاف الاميين والجهلة على مقاليد الامور في كثير من مفاصل الدولة مما أدى الى تداعي الاوضاع الاجتماعية واختزال الوطن ثانية في قرية وعشيرة أو مذهب أو اجندة لا علاقة لها بالوطن او الشعب.لقد فشلت الانظمة الشمولية وحروبها الاربع من أن تنتج مفهوما للمواطنة والانتماء بعيدا عن القرية والعشيرة والعرق والدين، فهل سينجح النموذج الحالي، وهل هذه الهجمة الشرسة عليه منذ قيامه تؤشر الخشية من نجاحه؟السنوات القادمة ربما ستمنحنا اجابات كثيرة!
عن الحوار المتمدن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق