ليست الديمقراطية أقراصا مهدئة أو علاجا سحريا يرمم بناءات المجتمع الاقتصادية والسياسية الآيلة للسقوط والموبوءة بأمراض تكلست عبر أزمان ودهور ومناهج تربوية أكل عليها الزمان وشرب، بل هي ممارسة وسلوك ومنظومة أخلاقية لا يمكن حصرها بتداول السلطة السياسية فقط وهي بالتالي امتداد لتحضر المجتمعات وتقدمها في كل مضامير الحياة بدءً من القراءة والكتابة والتحول من البداوة إلى المدنية وصولا إلى أعلى مراتب التقدم الاجتماعي والاقتصادي.
وتبدو موضوعة قبول الآخر واحدة من أهم مرتكزات الديمقراطية وممارساتها على الصعيدين الاجتماعي والسياسي وهي بذاتها العلة الأكثر تعقيدا وربما السبب الأكثر خطورة في ضآلة فرص نجاح معظم التجارب السياسية التي مرت وتمر بها منطقة الشرق الأوسط عموما والمحيط العربي خاصة وهي بالتالي سببا رئيسيا لنكوص المجتمعات وبطئ تقدمها.
إن مسألة قبول الآخر والتعاطي معه هي الأخرى ليست وصفة جاهزة للتنفيذ والأخذ بها بقدر ما هي نتاج نظام تربوي وأخلاقي واجتماعي تتميز به المجتمعات المتقدمة التي ينسجم فيها البناء الفردي والمجتمعي بما يحفظ حقوق الاثنين ومصالحهما وتتوازن فيها مصالح البلاد العليا مع مصالح الفرد المواطن دون ما تمييز في العرق أو الدين أو الرأي، وهي بالتالي معادلة قيام الدول المتحضرة ومجتمعاتها المتقدمة.
إنها بحق عملية تربوية وأخلاقية تبدأ من الأسرة ومن ثم المدرسة ومناهج التربية والتعليم وصولا إلى الجامعات و مؤسسات المجتمع المدني الأخرى، وفي كل ذلك تحتاج عملية التحديث هذه إلى دور الأم والأب والمعلم بدرجة أساسية لوضع أسس صحيحة لزرع مفاهيم البناء الديمقراطي للمجتمع ومنها بالتأكيد المرتكز الأساسي الأكثر أهمية وهو قبول الآخر.
لقد اعتادت معظم الأنظمة السياسية الحاكمة في هذه المنطقة وغيرها من العالم المولعة بالشموليات والاوحديات أن تبتكر نماذج من الديمقراطية وتمنحها أسماء وأصناف ومواصفات بحسب موديلات تلك الأنظمة وطبيعة سلوكها حيث ذهبت الكثير من هذه الأنظمة إلى ابتكار أنواع وأصناف من الديمقراطية للالتفاف حول مفهومها الأصلي في تداول سلمي للسلطة وقبول الآخر واحترام الرأي المختلف، وهي بالتالي تنتج ( آخرا ) حسب ما يتوافق مع نظامها لتزين به تجاربها السياسية وأنظمة حكمها الاستبدادية، ولعلنا نتذكر تلك الأحزاب والجمعيات التي تصنعها دوائر المخابرات لتزين بها جبهات وطنية تدعي قيادتها للدولة كما عمل النظام السابق ( وأشباهه ) في تكتيكاته بتصنيع ما كانت تسمى بالجبهة الوطنية والتقدمية ومن ثم الالتفاف على عناصرها الأصلية ومحاولة إفراغها وتصنيع ( آخر ) حسب القياسات والمواصفات المطلوبة من النظام الحاكم وتزيين عمليته السياسية بأحزاب و( آخرٍ ) مدجن بموجب ما تقتضيه مصالح النظام والثقافة الأحادية.
وإزاء هذا الإرث والتراكمات المتكلسة من مجموعة القيم التي كرستها الأنظمة السابقة سياسيا واجتماعيا ونفسيا، تحتاج مجتمعاتنا إلى تحديث شامل للنظام التربوي ومناهجه وعناصره في كافة المراحل، وإحداث تغييرات نوعية في بنية المجتمع وتوجهاته وفصل الدين عن الدولة وإعطاء المرأة دورها الأساسي الفاعل في تطوره وانتقاله من ثقافة القرية والبداوة إلى الثقافة المدنية والسلوك الديمقراطي وقبول الآخر.
عن جريدة التآخي البغدادية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق